صوت المرأة الغائب ومسار الحريّة
براء صبري
تنص المادة ١٤ من الدستور العراقي الدائم لعام ٢٠٠٥ أن”العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”، وهو بمثابة إقرار دستوري بتساوي الجميع أمام القانون، وقررت المادة ٢٠ من ذات الدستور “ على أن للمواطنين رجال ونساء حق المشاركة في الشؤون السياسية العامة والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها التصويت والانتخاب والترشيح”، وأشارت المادة ٣٠ في فقرتها الأولى إلى ضرورة أن “ تكفل الدولة للفرد وللأسرة وبخاصة الطفل والمرأة الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم”، كل هذه المواد الدستورية الرصينة، ولازالت المرأة العراقية تعاني من التهميش، وضعف المشاركة في الحياة العامة، والبعد الواسع عن مراكز القرار الأساسية في البلاد.
في العراق كبلد شرق أوسطي منكوب، يعتبر واقع المرأة المُحزن مثال واضح عن النتائج السودوايّة لفظاعات الحروب الخارجية والأهلية، والعقوبات الاقتصادية، والنظم الشمولية، وتدخل الجماعات المسلحة، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية. لم يكن حزب البعث في العراق أكثر من صورة لمدى التزام القادة في تلك الفترة بضرورة تحييد النساء عن المنافع المُفترضة من تلك الأفكار التي تدعي في صلبها “التقدمية”، وابقائهن حَبيسات الوضع الاجتماعي التقليدي في البلاد، والذي كان بعيد كل البعد عن موائمة الوقائع والتغيرات الكبيرة في مسار حقوق الإنسان والمرأة في العالم الخارجي.
بعد العام ٢٠٠٣، ومع وصول القوات الأمريكية ودول التحالف الموالية لها لبغداد، وتهدم كيانات الدولة، وسقوط نظام الحزب الأوحد، ظن المراقبون أن البلاد تسير إلى انفراج ديمقراطي، وشعرت النساء المعنيات بقضايا حقوق المرأة أن هُناك ضوء من الأمل بازغ في آخر النّفق المُظلم. مرت الأيام، وتلك الصورة المثالية بدأت في التراجع، وخفت الضوء. عززت، النزاعات الأهلية، والحرب الطائفية، والتدخلات الإقليمية، والفشل الحكومي المُتعاقب، والإرهاب، والفشل الأمريكي في ضبط الأمور، وانتشار التخلف، من عودة المجتمعات المحلية أكثر إلى نظام الرعاية العشائرية، والدينية، والأسرية الذكورية البحتة. لم تحم النساء في العراق، المواد الدستورية الإيجابية التي تم تثبيتها في العام ٢٠٠٥ من العنف والتهميش، بل اتجه الوضع إلى التراجع، وشهدت الدورات الانتخابية البرلمانية وصول نسبة جيدة من السيدات إلى البرلمان بعد إقرار نظام الكوتا الذي لم يؤد في عمقه إلا إلى تعزيز نفوذ بعض الجهات والأحزاب على حساب المُملثين الحقيقيين للنساء في عموم العراق. لكن، رغم ضمان الكوتا لنسبة النساء في البرلمان، تُشير البيانات الحديثة إلى كون التشكيلات الحكومية المُتعاقبة حجّمت الوزن النسائي في الحكومات، وتراجع عدد الوزيرات، من ستة وزيرات في التشكيلة الأولى الحكومية قبل عقد ونصف من الزمن إلى وزيرة واحدة في السنوات الأخيرة.
الجدير بالذكر، رغم كل هذه الظروف، كانت هناك تجربة رائدة نسبياً في هذا المسار، وهو الانفتاح الجيد على حقوق المرأة وقضاياها في إقليم كردستان العراق، وتعزيز دورها السياسي، والذي توّج بتسيّدها لأهم سلطة تشريعية في الإقليم، وهو البرلمان. كل هذه التغييرات والتقلبات، ولازال كفاح النساء في كُلتا العاصمتين بغداد وأربيل يبحث عن الوصول إلى ما يَصْبو إليه. ولازال أقل من طموحهنّ. حال النساء العراقيات صورة ومرآة عن عالم المرأة في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإن بحيثيّات وظروف ونسب مُختلفة.
في خضم كل هذا التخبط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبعد سنوات من النضال في سبيل تعزيز حقوق الإنسان وتعزيز دور النساء في الحياة العامة والسياسية، وبعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم ١٣٢٥ حول (المرأة والسلام والأمن) في بداية الألفية الجديدة، دخل العراق إلى مجموع الدول المُوقعة على القرار. وعلى اعتبارها أول دولة عربية في الشرق الأوسط تتبنّى القرار، أعدت بغداد لتنفيذ القرار خطة عمل وطنية في العام ٢٠١٤، ولكن جاء ظهور تنظيم داعش الإرهابي كواحد من المُسببات الرئيسية لبقاء القرار حبرٌ على ورق. وحالياً أصبحت الخطة الوطنية العراقية الثانية التي ستبدأ من العام ٢٠٢١ إلى العام ٢٠٢٤ قاعدة جديدة لمأسسة العمل الهادف إلى تقوية مراكز النساء على كافة الصُّعد الرسمية وغير الرسمية. هذه الخطة التي تدعو إلى الأمل تحتاج إلى الكثير من العمل والتعاون والرغبة والنضال.
النشاط الهادف إلى فتح الطريق للنساء للوصول إلى حقوقهنّ الأساسية، هو نشاط متنوع وعلى أكثر من محور. لا تتوقف النشاطات تلك على القرارات الحكومية فقط، بل مزيج من العمل الرسمي وغير الرسمي الشامل للمنظمات المحلية والدولية، والمراكز البحثية، والفرق التطوعية، ووسائل الإعلام والصحافة، والنشطاء الفرديين، والعمل الاقتصادي والاجتماعي، وضرورة ظهور المُبادرات الخلاّقة من كل هذه الجهات. هذا المزيج، يمثل الأرضية السليمة الحقيقية للنُّهوض بقضايا تهم المجتمع ككل. التجزئة نفسها وسيلة من وسائل إجهاض مَرام النهوض التنموي والإنساني في بلد ما.
تأتي عملية البحث عن حلول جذرية لقضايا إنسانية شائكة كقضية حقوق المرأة كجزء من بناء كيانات مُستقرة وحرة. هذه العملية المُعقّدة، والتي تواجه الكثير من المعوقات المحلية والخارجية، هي بحد ذاته ما يجب التركيز والنضال من أجله. حراكات من نوع كسر التابوهات التي تغلف الذهنيات المجتمعية وتُثبط تقبلها للتغيير المنشود. ونقصد التغيير الذي يراعي الواقع والمُتدرج والذي يأتي مُتناسق مع واقع المنطقة وتاريخها.
عليه، تنتظر النساء الغارقة ببحار التهميش في عموم العالم الثالث أن تجد لنفسها الدور الحقيقي في المشاركة بقيادة مسيرة المجتمعات التي تنتمي لها. هذا في حد ذاته نداء للنضال بالنسبة لهنّ. هذا النضال، الذي ينتظر مدّ يد العون له، يحتاج إلى تأطير وتعاون وقَوننة. القَوننة، التي لا يزال العديد من مراكز القرار في المنطقة تتعالى عن إقرارها، ويجد فيها قادة المجتمعات المحلية مساس بمراكزهم، هي عبارة عن تشريعات نظرية وممارسة عملية معاً. لا يمكن الحديث عن زاوية واحدة دون الثانية.
العمل على تذخير الهمم في مسار إدخال التشريعات الموالية لحقوق الإنسان وإنصاف المرأة وتعزيز الحريات والقضايا التنموية ككل وتسهيل ممارستها، هو جل ما يتمحور عليه النضال الحقيقي، والذي يأتي من خلال سماع صوت الجميع المقموع، والذي قد يكون لهذا المنبر الجديد الخاص بتعزيز السلام وحقوق المرأة دور حقيقي فيه، ولو كان هذا الدور جزئياً. المنبر الذي ظهر ضمن مجموعة الجهود التي تهدف لتعزيز الدعم لقضايا المرأة وبناء السلام لن يصل لأهدافه التي وجد لها لو لم يكن للمعنيين والمعنيات بهذه العملية دور في اغنائه ولم يكن مستعدين للمساهمة فيه وفي مثيلاته من منابر ترفع الأصوات المنادية بالحقوق.