العبـاءة
دعاء أبو رغيف
ظهيرةَ كل يوم، أمام كلّية الإعلام، اعتادت الخالة خمائل أن تأتيه بالطعام وهو جالسٌ على الأسفلت، ضئيلٌ لا يبرح مكانهُ، مُلتحفًا عباءة استحال لونُها إلى رمادي فاقع، مبرقة بالأتربة، تُغطّيه من رأسِهِ إلى أخمص قدميْهِ وهو منطوٍ على نفسه داخلها. لا ينبس ببنت شفة وكأن الكلام سيخدِشُ ذكرياتِهِ ويثير مكامنَ ألمِهِ. ظلّ يضحكُ تارةً، وأخرى يبكي، إلى أن اختفى منه صوتُه الجهوريُّ واستبدل بالصمتِ والضحك والنحيب. تطاولَ على مقلتَي عينيه الذبولُ وتوارت تقاسيمُ وجهِهِ الحادّة. يداه مُتخشّبتانِ، لا يفصلُ بينَ جلدِهما والعظمِ شيءٌ. يحدّقُ في الوجوه كمن يبحثُ عن شيءٍ لا أثرَ له. كانت الشمس قد تكبّدت السماء، وقلّت أعدادُ المارّةِ، وساد الصمتُ في الأرجاء، عندما رأت الفتاة الخالة تهمّ بالرحيل. اقتربت منها واستأذنتها بالجلوس. لاك لسانُها كلماتٍ خجلةً:
“يُدهشني ما يتناقلُ عنه من أخبارٍ بينما أنت الوحيدة التي تُلازمينه ولا تنفكين عن الاهتمام به. أتيت للتحدّث معكِ على أمل أن تَقصّي عليَّ حكاية هذا الرجل وسرَّ العباءةِ التي تناقلتها الأفواه. فأنا أريد أن أنشرها ضمنَ القُصَصِ الواقعيّةِ في مجلةِ الجَامِعة لكي أشيح الغموض عن سرِّهِ المطمورِ.”
صمتت الخالةُ لبرهةٍ، ثمّ مسحت قطرات الدموع المعلّقة بين أهدابها وقالت: “آه يا بُنيّتي، إن ما حصل لهذا الرجل وعائلته كابوسٌ لم يُرَ مثله؛ فبعد ما حصل له خسر كل شيء. خارت قواه وتمزّقت الأواصر بينه وبين زوجته التي هجرته ورحلت إلى أهلها في إحدى المحافظات البعيدة. ابنته…”
أطرقت الخالة برأسها كأن شيئًا ما يكتم أنفاسها، وكأن ما ستقوله سيُذرُّ الرمالَ في العيون؛ فربتت الفتاة على كتفها وطلبت منها أن تتوقّف إذا كان يزعجها ما ستقول، لكن الخالة استأنفت حديثَها بعد زفرة حسرة ساخنة من صدره:
“لولا كرمه معي في السابق لما أتيتُ إلى هنا. لكن ها هو أمامَك، قد أخذ نصيبَه من الأمر، والحمدُ لله على كل حال. في الواقع يا أبنتي، جذوري ليست منهم، لقد كنت أقطن في مدينة أخرى أكثر تحررًا، وأمتلك صالون حلاقة للنساء؛ لكن غلاء الإيجار وسوء المعيشة هما من أتيا بي لأسكن في حيّهم مع أبنتي الوحيدة التي تزوجت قبل أعوام ثلاثة وسافرت إلى خارج البلاد. هذا من الأسباب التي تدفع عائلات الحيّ بالسماح لبناتهم بالمجيء عندي كيلا أشعر بالوحدة، وهذا ما يُميّزهم. فهم أصحاب غيرة كبيرة، ولأن منطقتَهم شعبيّة ومحافظة إلى حد ما، أنا الوحيدة التي كانت الفتيات يرتحنَ إليّ، يجلسن، ويتسامرْنَ ويتبرّجنَ عندي، ويعدّنَ العديد من الأطعمة كالدولمة والكبة والكليچة. من بين تلك الفتيات رانيا، وهي أبنةُ هذا الرجل، كان عمرها تسع عشرة سنة؛ فتاة حسنة التهذيب وابتسامتها الدائمة تبثّ الفرحَ في كل من يراها، ولديها حسّ عالٍ بالفكاهة. قالت لي مرة إنها تحلم بأن توافق عائلتها على أن تُكملَ دراستها فتلتحق مع صديقاتها في كلّية الإعلام. في الحقيقة كنت أشجعها على ذلك فأجلب لها الكتب لتُخبِّئها، ونقرأ معًا حين نفرغ من أعمالنا اليومية. في أحد الأيام، وهنّ جالساتٌ عندي، أخبرت رانيا الجميع بغنج إن حبيبَها سامرًا، وهو ابنٌ أحد كبارِ المنطقة، سافر ليدرسَ في السويد وقد بعث إليها خاتمًا من الماس. التفّتْ صديقاتها حولَها، وصرْنَ يحملقن في الخاتم بدهشة، ثم سألنَها لماذا لم تخبرهنّ من قبل بعلاقتهما، فأجابت رانيا بضحكةٍ مجلجلةٍ، ’أخاف عليه من الحسد، فهو كريح الشمال‘. رهف، إحدى الفتيات، استشاطت غضبًا وتنحّت بعيدًا لأنها شعرت بأن رانيا تنتقص بتلميحها هذا من حبيبها مروان؛ فهو فقير، منحرف ضوضائيّ، إلا أنه يعجب رهف كثيرًا بملاحقته إياها بدراجته من مكان إلى آخر. ذلك يشعرها بالفرادة عن باقي صديقاتها، فهي أنانيّة وطائشة لا تحبُّ سوى نفسها وملذّاتها. شعرت رهف بغيرة شديدة واعتمل الحقد في قلبها، فاتّصلت بمروان من هاتفها، وطلبت منه، هو الذي لا يعرف بأمره أهلها، أن يفترقا. غضب منها، ولما حاول معرفة السبب، قالت له، ’أنت لا تشبه سامرًا! هو يدرّ لرانيا بالكثير من الهدايا الثمينة، بينما أنت لا يُرى منكَ سوى الكلام الفارغ‘. في الحقيقة، رأت رانيا رهف وسمعت كلامها. أنا لم أعر للحديث الاهتمام لأني كنت مشغولة في توضيب المنزل. بعد ساعة ونيف، شاهدت الخاتم في يد رهف، لكنها ارتبكت ودسته في جيبها.
في يوم، كانت رانيا تطلُّ من الشرفة بشعرها الأسود المتطاير وببريق عينيها المتلألئتين، فاتحةً ذراعيها تحتضن الحياةَ، كأنّها امتلأت بها متأملةً تحقيق أحلامها البعيدة، اتّصلت أمّها. كان يبدو أنها أسمعتها كلامًا لاذعًا، لأن وجهها شَحُبَ على إثر الحديث، وبعد إنهاء المكالمة، ارتدت عباءتها على عجل، وكانت تبدو مذعورة وواجمة. لحقت صديقاتها بها، إلا أنها كانت تجري لاهثةً. شعرتُ بأن هناك أمرًا مخيفًا لا يبشّر بالخير. بعد مضي أسبوع، قررتُ أن أذهب إلى منزلها وأستعلم عن سبب غيابها المفاجئ وعدم التواصل مع صديقاتها. في طريقي، صادفت العمّ كريم صاحب المقهى الذي يجلس فيه كل أبناء الحيّ. سألني، ’هل أنتِ ذاهبة إلى خطوبة رانيا؟‘ أجبته بدهشةٍ، ’ستتزوّج‘؟ قال، ’نعم. سمعت أن اليوم سيُقام عقد قرانها على ابن عمّ لها أرمل، أظنّ أن ذلك يحدث بسبب الشجار‘، ’عن أيِّ شجارٍ تتحدّث؟‘
أجابني، ’قبل أسبوع حصل شجار في المقهى بين والد رانيا والشاب مروان؛ لم أفهم كيف بدأ الحديث حتّى تشاجرا، لكني سمعت مروانَ يقول له، ’إن كنت لا تصدقني فهذا الخاتم دليل على كلامي‘، وما إن نظر الرجل إليه حتّى أحمرَّ وجهُهُ من الغضب ورماه على الأرض وخرج. فحملتُ ذلك الخاتم، واحتفظت له به، ونويتُ أن أعيده له حالما يأتي إلى المقهى، لكني لم أشاهده مذ ذلك اليوم‘. حينئذٍ، طلبت من العمّ كريم أن يريني الخاتم، وما إن رأيته تهالكت على إحدى أرائك المقهى، وقلت له، ’إن هذا الخاتم مزيف، أنا من ابتعته لرانيا!‘ بعد أن شكرته، هرعت مسرعة إلى بيت رانيا لعلّي أصل قبل عقد قرانها، وأقرّ لهم بالحقيقة. حين بلغت البيت فتحت الباب على مصراعيه، فاشرأبَّت أعناق الجميع، وهم مستغربون من دخولي المجنون عليهم. لم تبدأ مراسم عقد القران بعد، لوّحت لوالديها فامتقعت سحنتيهما. جاءاني وتبين عليهما سيماء الجدية. كنتُ قد تسمّرت أمامهما، وبذلت قصارى جهدي حتى أقنعتهما بأن رهف قد استبدّت بتصرفاتها، وحذت حذو ذلك الشاب الطائش ونقلت إليه تلك الثرثرة، ومزحة رانيا، بأن هذا الخاتم المزيف الذي ابتعته لها من البائع المتجول حقيقيٌّ وقد بعثه لها سامرًا. لطمت أمُّها خدَّها وصارت تصرخ، ’يا لإبنتي المسكينة‘! أما والد رانيا فأزاح التجهم من وجهه وأعلن انتصارَه بعد إثبات شرفها وعفتها. طلب من أمّها أن تناديها ليعتذر منها عمّا بدر منه وعن منعها من الخروج، لتسمع تلفيقَ صديقتها عليها. ما هي إلا دقائق حتى سمعنا صراخًا في الطابق العلوي، فصعدنا مسرعين، وإذا برانيا معلقةً نفسها، بعباءتها بمروحة الغرفة. واليوم، وبعد مرور عامين ونيف يظل والدها جالسًا أمام كلّية الإعلام، وهو يرتدي تلك العباءة منهوك القوى والعقل.”