لعنة الحبّ نحن

مها عزيز حسن ابراهيم الجبوري

رغد

 

هكذا كانت طفولتنا. ابتسامات زائفة تخفي آلامًا محفورة في الأعماق.

كبرنا قبل الأوان. 

عشقنا الغيوم ولم نكن نرى غير الغيوم السوداء.

غنّينا الحبّ ولم نجده.

طلبنا العونَ ولم ننَله.

هل نحن ذنبٌ للحبّ؟ أو وجع الدنيا هو نصيبُنا؟

 

هكذا بدأت حكايتُنا. تزوّجت أمّي من أبي بالرغم من معارضة أهلِها هذا الزواج، وتركت المدينة لتنتقل إلى القرية حيث يعيش. كانت معلّمةَ مدرسة وهو عامل بسيط في محلّ تجاريّ. أحبّته، ولم يهمّها الفارق الثقافيّ بينهما. على الرغم من الخلافات التي ظهرتْ مع مرور الوقت بسبب ذاك الفارق، صبرت أمّي على أبي؛ فبالنسبة لها، يمكن للحبّ أن يصمد في وجه كلّ المصاعب الزوجيّة. لم يكن يروق لأبي أن تذهب أمّي إلى المدرسة طوال النهار. كان يغار عليها بشدّة، لدرجة أنّه صار عنيفًا معها، كلاميًّا وجسديًّا. كان ضربُه شديدًا حتّى بعدما حمَلتْ بنا.

 

وُلِدنا أنا وأختي فأسمتنا أمّي رغد وشهد. كبرنا في جوّ من التوتّر الدائم في البيت. أبٌ يصرخ، يضرب، وأمّ تحاول حماية طفلتيها وتعاني من قسوة ما بعدها قسوة.

 

تحمّلتْ أمّي أبي إلى آخر حدّ، خوفًا من نظرة أهلها والمجتمع لها في حال تطلّقت منه. لكن حين لم تعد تستطيع تحمّل عنفه، قرّرت الطلاق منه، حتّى لو كان ذلك سيسبّب خسارتها لنا، أنا وشهد، وستتلقّى اللوم من الأقارب والأصدقاء والجيران.

 

حصل الفراق، وتُركنا أنا وشهد لنواجه تداعيات هذا الطلاق. في حينها، كنّا صغيرتين لم نتعدَّ سنّ الخامسة.

 

في الليلة الأولى لرحيل أمّي من البيت، لم نستطع أنا وأختي التوقّف عن البكاء. في النهاية غفتْ شهد من التعب الذي حلّ عليها. خفتُ فصرتُ أصحّيها وأصرخ: “انهضي يا شهد. أريد أمّي. علينا أن نعدَها إذا عادت أنّنا لن نسبّب لها المشاكل بعد اليوم، ولن نتسبّب في غضبِها منا.”

دخل أبي علينا ونحن شاهقتين من البكاء، فصرخ بنا: “كفّا عن البكاء وإلّا سأضربكما!”

قلتُ: “أريد أمّي!” فصفعَني وهو يجيب: “إن سمعتك تقولين ذلك ثانية، سوف أقتلك بيديّ هاتين! اصمتي!” ثمّ خرج من غرفتنا يتمتم بشتّى الشتائم. أمسكتْ شهد بيدي وهمستْ: “هو سوف يقتلنا، اسكتي يا أختي.” قلت: “عطشانة، أريد ماء.” 

“انتظريني، سأذهب وأحضر الإبريق.”

 

كان الإبريق ثقيلًا، فانسكب بعض من الماء على ملابسي. بكيت مجددًّا، لكن بصمت هذه المرّة. حاولتُ أن أخلع ثيابي لأبدّلها، فلم أستطع وحدي. ساعدتني شهد في ذلك، وابتسمنا لأنّنا أنجزنا أمرًا لأوّل مرّة دون مساعدة أمّنا.  

 

تلك الليلة الأولى لمغادرة أمّنا البيت، صحونا عدّة مرّات خلال الليل متخيّلتين أنّنا نسمع صوتها تنادينا. كان فراقها حسرةً خانقة في صدريْنا، ومفتاحًا لعالم من المآسي لم نكن نعلم أنّه ينتظرنا عند ذاك المفترق. 

 

كنّا نشبه أمّي إلى حدّ كبير بالشكل وبالطباع، وهذا الشبه جلب لي ولأختي معاناة ما بعدها معاناة بسبب بغض أبي لها ولكلّ ما يذكّره بها. على الرغم من ذلك، لم نكره شكلنا لأنّنا كلّما نظرنا في المرآة نتذكّر شكل أمّنا التي نشتاق إليها باستمرار.

 

***

شهد

 

لم يكن أبي يبتسم لنا. كان يعاملنا في عمرنا الصغير ذاك وكأننا غريبتان عنه. اكتشفنا وجهًا جديدًا له لم نكن نعرفه. كنّا نخاف النظر في عينيه. صراخ، ضرب، عصبيّة دائمة… على مرّ الأيّام، اعتدنا على هذا الوضع.

 

في أوّل يوم في المدرسة، علّمونا حروف الأبجديّة. عدنا أنا ورغد إلى البيت، وبدأنا نكتب فروضنا. لم أستطع الإمساك بالقلم بشكل جيّد، والحروف التي حاولت كتابتها كانت تبدو كبيرة جدًّا ومائلة. صرت أبكي لفشلي، فنبّهتني رغد: “إن سمعك أبي تبكين سوف يقتلك. لنحاولْ أن نكتب معًا.” أمسكتْ أختي بيدي، وكتبنا. بدت الحروف أفضل من ذي قبل. عرفتُ، منذ ذاك اليوم، أن سندي في الحياة هي أختي رغد، كما أنّني أنا سندُها أيضًا. وهكذا بقينا، نتعاون في كلّ أمور الحياة، في البيت وفي المدرسة. تفوّقنا على زملائنا في الصفّ وأصبحنا من الأوائل في المدرسة. كنّا نبكي إن أخفقنا في مادّة ما، أو نِلنا درجة أقلّ ممّا نتوقّع. لم نرضَ بأقلّ من درجة ممتازة في كلّ شيء. لكن بعض الطلّاب كانوا يسخرون منّا لأنّ والديْنا مطلّقان. تلك أوّل مشكلة واجهناها في المدرسة وقد أثّرت عليّ كثيرًا. لم أكن أودّ أن بكي أو أن أبدو ضعيفة أمام هؤلاء الطلّاب المتنمّرين، لذلك كنت أجد ملاذًا لنفسي تحت شجرة كبيرة موجودة في ممرّ ضيّق خلف مبنى المدرسة. لم يكن الطلّاب يذهبون إلى هناك، فالساحة الكبيرة مكانهم المفضّل. أجلس تحت الشجرة، أحني رأسي وأبكي. وكلّما استفقدتْني رغد وبحثت عنّي، وجدتني هناك. في يوم، تفقّدتني ثمّ عادت إلى الساحة الكبيرة. سألتها: “إلى أين؟” “سأوبّخ هؤلاء الأولاد. انتظريني هنا.” لحقتُ بها.

سمعتُها تقول بصوت عال: “من منكم يسخر من شهد؟”

“أنا”، أجاب أحدهم. “هل لديك مشكلة؟”

“يا حقير!” ثمّ انقضّت عليه تدفعه وتريد ضربه. صارت معركة بينهما وتجمّع الطلّاب للمشاهدة وللمشاركة إمّا بالهتافات تشجيعًا لذاك المتنمّر، وإمّا بصيحات تشجّع رغد. أسرع مدير المرسة ليفضّ الخلاف، وأخذنا إلى مكتبه. رويْنا له ما حصل، وحاول الطالب المتنمّر الدفاع عن نفسه، لكنّ المدير أعطاه إنذارًا ومنعه من توجيه أيّ كلام مؤذي تجاهنا. 

 

بعد تلك الحادثة لم يجرؤ أحد على التعرّض لنا بأيّ كلام ساخر أو مستفزّ. إنّها رغد، أختي الرائعة، هي التي علّمتني كيف أكون قويّة.

 

كنّا نحبّ المدرسة. نغنّي كلّ يوم خميس تحيّةً للعلم، وننشد أناشيد جميلة فننسى كلّ أحزاننا. الشوارع والطيور والدكانين والسيّارات، أمور عاديّة بالنسبة لكلّ إنسان، كانت لي ولرغد عالمنا الخارجي الجميل، عكس حياتنا في البيت. عند عودتنا بعد دوام المدرسة، كان جوُّ السقم والكآبة في البيت يخنقنا. كان لأبي زوجة قد أنجبتْ أطفالًا، إخوة صغار لنا. تلك الزوجة لم تكن سيّئة، وذلك كان من حسن حظّنا. لكنّها بالطبع لم تكن تعاملنا مثلما تتعامل مع أطفالها؛ كنّا نحمد الله أنّها لم تكن شرّيرة مثل زوجة أب ساندريلّا في القصة. أمّا بالنسبة لأبينا، فوجودنا في البيت أو عدمه سيّان. كان يفشّ غضبه بنا، فلا يرتاح إلّا بعدما يضربنا لأبسط الأسباب. أسلوبه العنيف هذا كان فقط لمعاقبة أمّي. كان حتّى يستخدم النار لحرقِنا، أو يتسبّب بكدماتٍ تبقى ظاهرة على جسديْنا، لكي ترى أمّي ما يفعله بنا حين نذهب لزيارتها. هو يضربنا وهي تتألّم. لكن أنا وأختي لم نكن نخبرها أبدًا بأنّه يضربنا. حقيقة، لم نكن نعترف أمام أيّ شخصٍ كان برُعْبِنا من أبينا وبجوّ الاضطراب الذي كنّا نعيشه. لم يكن يعلم بنا غير الله. 

 

نحن ننجح في المدرسة، وأبي يزداد قساوة. أمّا أمّنا فتزوّجت هي الأُخرى ولم تعد تسأل عنّا كثيرًا. أصبحتْ هذه الأمور طبيعيّة بالنسبة لنا. كنّا أنا ورغد نضحك على مآسينا أحيانًا، ونقول لبعضنا إنّنا أقوى من هذا الوجع، وربّما هناك أمل في داخلنا بمستقبل ينسينا ماضينا. كنّا ما إن تضع كلّ منّا رأسها على وسادتها، تبدأ الحلم بمستقبل مُشرق. مئزرٌ أبيض نلبسُه بعدما نصبحُ طبيبتين مميَّزتين، ونكون ملائكةَ رحمةٍ على الأرض فننقِذ الناس من مآسيها وأمراضها الجسديّة. 

 

مضتِ السنين وصرنا في المرحلة المتوسّطة. نكبر والناس من حولنا يلاحظون ذلك، ما عدا والديْنا. لا وجود لنا بالنسبة لهما، وكأنّنا لم نُخلق حتّى! لدى كلّ منهما عائلته الجديدة وحياته التي لا نشكّل أنا ورغد جزءًا منها بأيّ شكل من الأشكال. كنّا نشعر بأنّنا غربتان في هذه الدنيا، لكنّنا نحمد الله دومًا على كوننا توأم، أمر هوّن على كلّ منّا الكثير.

 

تعلّقَ قلبي بشابّ وجدتُ فيه الحنان الذي أفتقدُه منذ بداية لقاءاتنا. كان يمرّ أمام المدرسة كلّ يوم في طريقه إلى عمله. لم أعره أيّ اهتمام بدايةً، لكن في يوم، كنت أمشي نحو المدرسة مع أختي وأنا أبكي وأشكو لها، لأنّ المعلّمة أصرّت عليّ تقديم امتحان لم أتمكّن من التحضير له بالأمس بسبب مرضي. عند اقترابنا من مدخل المدرسة، التقينا بشابّ قال موجِّهًا حديثه إليّ: “هذه المرّة الأولى التي أرى فيها قمرًا يبكي.” قلت مع ابتسامة خفيفة: “عن أيّ قمر تتكلّم ووجهي عابس هذا الصباح؟” “ولمَ البكاء؟” سألني بصوت بدا عليه الاهتمام بأمري. أخبرته أنّ السبب هو الامتحان، فقال ممازحًا: “أنا لم أبكِ يومًا على فشل في اختبار. فأنا دومًا أفشل، وشعاري هو أن النوم والكسل أحلى من العسل.” اتّسعت ابتسامتي عند قوله ذلك. “اضحكي ولتذهبْ كلّ الامتحانات إلى الجحيم”، أضاف ذلك ثمّ أكمل طريقه ونحن دخلنا المدرسة. روحه الفكاهيّة هدّأت من روعي بعض الشيء، وأنستني كَرَبي بخصوص الامتحان. وذاك اليوم، كانت رغد تضحك كلّما استعدنا الموقفَ مع ذاك الشابّ. عرفتُ لاحقًا أن اسمَه أحمد، وصرنا نتلاقى باستمرار، فأصبحنا صديقين، وصرت حين أتكلّم معه أشعر كأنّني لستُ شهد. بعد أشهر، تحوّلت صداقتنا إلى حبّ جميل، اعترفنا لبعضنا به. لم يكن يعرف بوجود أحمد في حياتي غير أختي رغد. أصبح معظم حديثي معها حوله. بوجوده أضاء عالمي وأنساني الماضي لينقلني إلى المستقبل دون أي تخطيط. الواقع الذي عشته معه أجمل من الذي حلمت به. الله أرسل لي أحمد ليكون رحمة لنا. صحيح أنّ الحبّ كان بيني وبين أحمد، لكن رغد تفرحُ لفرحي؛ فحين تراني مبتسمة تقول: “اليوم أنام وأنا مرتاحة جدًّا.”

 

الفراغ الذي كان يطغى على حياتي امتلأ بوجود أحمد بجانبي. لكن هذه السعادة لم تدمْ طويلًا. فحين اكتشفَ أبي علاقتَنا، انقلب وحشًا بعينين حمراوين ووجه عابس متشنّج وصوت يزأر بغضب: “شهد! شهد!”

“نعم يا أبي؟”، أجبتُ بصوت ضعيف بسبب التهديد الذي بدا على صوته وهو يلفظ اسمي.   

“أيّتها الحقيرة! أنت مثل أمّك بالشكل وبالفعل! تُقيمين علاقات من وراء ظهري؟” ثم بدأ يضربني بكلّ ما لديه من قوّة.

ضرب، بكاء، صراخ في أرجاء البيت. الصغار يبكون وزوجة أبي صامتة لا تجرؤ على الكلام. فهي تعرف طبع زوجها الجنوني.

انتهت تلك الليلة، فانعزلنا أنا ورغد في غرفتنا نضمّد جراح بعضنا البعض. فهو ضربها كما ضربني. ألم، بكاء وحزن.

منعنا أبي بعدها من الذهاب إلى المدرسة، وحرمَنا الأكل لمدّة يومين كاملين! 

 

إنّه عذاب مقيت… عصفوران يموتان ألَمًا ولا أحد يعلم بهما.

انتهى العام الدراسي وحلّ عام جديد، وأنا وأختي نصلّي ونسأل الله أن تتغيّر الأمور إلى الأفضل.

***

 

رغد

 

بعد مرور اثنيْ عشر يومًا من السنة الجديدة، استيقظتْ شهد في إحدى الليالي تتقيّأ وتعاني من ألَم شديد في بطنها. سمعتها تنادي باسمي بصوت ضعيف: “أنا أموت من الألَم يا رغد! أشعر أنّ أحشائي تتمزّق. أحضري لي أيّ شيء يسكّن الوجع.”

ذهبتُ أطرقُ باب غرفة أبي: “أرجوك يا أبي انهض! شهد تتألّم بشدّة، علينا أن تأخذها إلى المستشفى!”

“أجابني صارخًا: “ما بك أنت وتلك المنبوذة أختك؟”

“إنّها تشكو من ألَم شديد في بطنها. قد تكون الزائدة الدوديّة. علينا أن نأخذها إلى المستشفى قبل فوات الأوان!”

“هي تكذب وتتصنّع الألَم بلا شكّ.”

“أرجوك يا أبي، إنّها تموت! خذها إلى المستشفى!”

“اغربي عن وجهي!” صرخ بي وأغلق باب غرفته بعنف.

أحضرتُ مسكّنًا علّه يهدّئ من ألَم شهد قليلًا.

“نعم يا أختي، خفّت الأوجاع مع المسكّن، وأشعر بتحسّن الآن”، كذبتْ عليَّ يومها لتطمئنني.

كان قلبي يحدّثني بغير ذلك. صرت أدعو لربّي: “أرجوك يا الله هوّن عليها ولا تأخذ أختي وتتركني أواجه هذه الحياة وحدي.” 

ردّت شهد: “لا تخافي يا رغد. سنكبر معًا ونحقّق كلّ أحلامنا. سنصبح أجمل وأشهر طبيبتين.”

ابتسمتُ لها من خلال دموعي: “نعم يا شهد. سنحقّق كلّ ذلك سويًّا.”

 

حلّ الفجر علينا والألَم لا زال يمزّق أحشاء أختي. لم أنم أبدًا، لكن النعاس الشديد كان ظاهرًا عليّ.

“نامي يا أختي، وأنا أيضًا سأنام.”

أغمضتْ شهد عينيها وادّعت النوم لكي تطمئنني. كنت أعرف أنّها لا زالت تتألّم بشدّة، لكنّني استطعتُ أن أنام لساعات قليلة. حين صحوتُ، أحضرتُ طعامًا علّها تتمكّن من الأكل، لكنّها لم تضع أيّ شيء في فمها. دخل أبي غرفتنا ووجّه كلامه إلى شهد: “لا تدّعي المرض أيّتها الكاذبة!”

أجبتُه: “سوف يأتي يوم يحاسبك فيه الله!” ابتسم بسخرية، دفعني بكتفه لأبتعد عن طريقه، وخرج.

 

في المساء، ذبل وجه شهد أكثر فأكثر، واختفى بريق عينيها. كنت أتأسّف لأنّي لا أستطيع مساعدتها. 

طلبتْ مني أن أجلس بجانبها. حين فعلتُ، وضعت يدها على يدي وقالت: “لا تنسي أنّي أحبّك كثيرًا يا رغد.”

“أرجوك يا أختي لا تتركيني، فالعالم موحش من دونك!” قلتُ وأنا أبكي.

“يبدو أنّك سوف تكملين في هذه الحياة وتحقّقين أحلامنا لوحدك. هذه إرادة الله يا أختي.” تنهّدَتْ، ثمّ أكملتْ: “عديني بأنّك لن تحزني على فراقي إلى الأبد. أكملي حياتك. أريد أن أطمئنّ على راحتك، حتّى ولو كنتُ تحت التراب. استمرّي بكلّ القوّة التي تملكينها. نحن أقوى من أن ننحني للصعوبات التي نواجهها، أليس كذلك؟”

هززتُ رأسي إيجابًا وعيناي منتفختان محمرّتان من شدّة البكاء. قلتُ: “لكن كيف أستمرّ بالعيش من غير أن أرى وجهك؟ كيف أذهب إلى المدرسة من دونك؟ سيصبح الطريق طويل وستظلم عليّ الحياة. اصبري قليلًا بعد. سأذهب لأحضر الطبيب رغمًا عن أبي.”

“رغد، لا تغيبي عن وجهي. أريد أن أفارق هذه الدنيا وأنتِ آخر من أراه. سلّمي على أمّنا وقبّليها عنّي حين ترينها. وأرجوك ألّا تُشعِري أبي بالذنب. فمهما كانت تصرّفاته معنا، يبقى والدنا.”

ناولتني دفترًا، وأكملتْ: “خذي يا رغد، إنّه دفتر مذكّراتي. أكمليه بقصّة حياتكِ انت ابتداءً من اليوم. بدايتُه تحكي مأساة طفولتنا، ولعلّك بعد اليوم تكتبين فيه أجمل الذكريات.” 

أغمضتْ شهد عينيها ببطء واستسلمتْ. لمستُ خدّها فجدته باردًا. كان وجهها شاحبًا وهادئًا، ولا تزال دمعتها الأخيرة تسيل على خدّها. مال رأسها في حضني… انتهت رحلتها في هذه الدنيا.

في ذلك اليوم، غابت شمسي وأصبح نهاري ليلًا.

 

بعد وفاة أختي، جاءت أمّي لتسأل عمّا حدث لشهد، ولتحاسب أبي.

كان في المواجهة بين والديّ الكثير من الغضب واللوم، لكن في النهاية حزنهما واحد. هما يتعذّبان لموت ابنتهما. الآن يُظهران حبّهما لها؟ ما فائدة الحبّ بعد الموت؟ يعذّبوننا حتّى نموت وحين نموت يبكون لفراقنا؟

***

رغد

 

أعظم شيء وجدته في هذه الدنيا هو الحبّ لأنّه أتى علاجًا لكلّ المآسي. أن تلتقي بإنسان يحبّك بصدق هو أعظم نعمة. تعلّمتُ دروسًا كثيرة في الحياة. أوّلها أن تكون سندًا لنفسك، وثانيها أنّ بعد الصبر فرج وسعادة. 

 

اليوم أنا الطبيبة جرّاحة القلب الدكتورة رغد. حقّقتُ حلم شهد وحلمي. تزوّجتُ من شخص أحبّه ويحبّني، وأنجبتُ ثلاثة أطفال، أكبرهم أسميتُها شهد. هي جميلة تشبه خالتها كثيرًا.

 

أكملُ حياتي اليوم بسعادة، ولكن طيف شهد لا يفارقني، وأنتظر اليوم الذي سنلتقي به مجددًّا بعيدًا عن هذه الدنيا.